الليرة السورية "تدخل التاريخ" يوميا.. وذوبان القيمة يطلق "سؤال الحدود"توقعات 2023
"تسجّل أدنى مستوى لها في التاريخ".. "هبوط تاريخي لليرة السورية".. "انهيار تاريخي غير مسبوق". هذه العبارات باتت أكثر ما يتداوله ويقرأه السوريون، وفي وقت يوشك العام 2022 على الرحيل، تشهد عملة البلاد ذوبانا في القيمة في سوق العملات الأجنبية، لتصل حتى ساعة إعداد هذا التقرير إلى حد 7100 مقابل الدولار الأميركي الواحد.
ورغم أن هذا التدهور في قيمة الليرة السورية ليس بجديد، بل يعود إلى سنوات مضت من عمر الحرب في البلاد، إلا أن المسار المتسارع الذي سجّله خلال الساعات الماضية أطلق تساؤلات، عن الأسباب التي تقف وراء ما يحصل، و"الحدود" التي قد يستقر عليها سعر الصرف، وما إذا كانت ستكون واضحة، على المدى المنظور.
ولطالما تحدث رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بلغة الاقتصاد، معتبرا أن ما وصفها بـ"معركة سعر الصرف النفسية تقاد من الخارج"، وأن حكومته حققت فيها "إنجازات غير مسبوقة"، لكن الأرقام التي أعلن عنها خلال السنوات الماضية قادت إلى غير ذلك، ليستمر عداد التدهور في قيمة الليرة، في وقت دخل فيه الاقتصاد بمحطات "على شفا الانهيار"، وفق مراقبين وباحثين.
ومنذ بداية ديسمبر الحالي خسرت الليرة، حسب المواقع المهتمة بأسعار سوق الصرف الموازي، 22 بالمئة من قيمتها، و93 بالمئة على أساس سنوي. وجاء ذلك بالتزامن مع أزمة محروقات ضربت المحافظات السورية، فيما تشير تصريحات مسؤولي الحكومة السورية إلى "حالة عجز" قد لا تسفر عن أي مخارج قريبة وإسعافية.
ودفعت أزمة المحروقات المرتبطة، وفق الرواية الرسمية، بـ"تأخر وصول التوريدات من إيران" حكومة النظام السوري إلى تعطيل عمل المؤسسات والمدارس لعدة أيام، وقبل ذلك كانت قد علّقت سلسلة من النشاطات الرياضية، بسبب شلل حالة النقل، التي تعتمد في الأساس على المازوت والبنزين.
"أسباب قديمة وجديدة"
ومنذ بداية أبريل 2021 وحتى أواخر العام ذاته كان سعر صرف الليرة قد استقر عند حاجز الـ3500 ليرة أمام الدولار الواحد، بعدما شهد تدهورا متسارعا في فترة زمنية قليلة.
لكن، ومع الدخول بعام 2022، عاد السيناريو السابق ليتكرر مجددا لكن بعيدا عن دائرة الضوء الإعلامية والرسمية، ليتجاوز سعر الصرف حد الـ4000، ومن ثم ليلامس حاجز الـ4500، ويدخل بنزيف مستمر حتى 7100، وفق السعر المسجّل في السوق الموازي ليوم الأربعاء.
وبتقدير عبد المنعم الحلبي، وهو دكتور في العلاقات الاقتصادية والدولية، وموظف سابق في مصرف سوريا المركزي فإن التدهور الحاصل في سعر صرف الليرة السورية في الوقت الحالي يرتبط بـ"سببين لا ثالث لهما"، الأول هو أحداث إيران والمخاوف والانعكاسات الناتجة عنها.
أما السبب الثاني يتعلق بـ"فرض التعامل بالدولار (كاش)، نتيجة المخاوف من سياسات التعقب والمراقبة المصرفية بعد تجدد تفعيل العقوبات".
ويرى الحلبي، في حديثه لموقع "الحرة"، أن هناك ربطا بالتأكيد بين ما تشهده الليرة وأزمة المحروقات، موضحا بالقول: "حيث تضطر حكومة دمشق لدفع المستحقات نقدا بالكاش، ما يؤدي لزيادة سعر الدولار في السوق".
ولم يصدر أي تعليق من جانب حكومة النظام السوري والبنك المركزي في البلاد بشأن التدهور الحاصل، على خلاف أزمة المحروقات، التي فسّر وزراء أسبابها بأنها ترتبط بـ"تأخر وصول التوريدات" من جهة، وبالعقوبات الغربية المفروضة على النظام من جهة أخرى.
بدوره يعتقد الباحث الاقتصادي في مركز "عمران للدراسات الاستراتيجية"، مناف قومان، أن سبب التدهور في قيمة الليرة "قديم جديد"، إذ "لا يمكن أن أفصّل ما حصل لليرة خلال الفترة الماضية عمّا يحصل الآن، أو القول إن الليرة كانت مستقرة والآن هبطت"، وفق قوله.
وبالتالي، يضيف قومان لموقع "الحرة"، أن سبب التدهور يرجع إلى "إدارة النظام السوري للسياسة النقدية خلال السنوات الماضية، التي ساهمت في تراكم الأسباب، مثل عدم استخدام الأدوات النقدية على رأسها سعر الفائدة لامتصاص الفائص النقدي في السوق، واعتماد النظام على موازات تضخمية ساهمت في ارتفاع معدلات التضخم".
علاوة على ذلك هناك أسباب مثل "عدم إيجاد مولدات دخل بديلة للنقد الأجنبي مقابل الاعتماد على لبنان وشبكاته الخاصة لتوفير الدولار، وفقدان المركزي السوري الملاءة المالية، وبالتالي عدم القدرة على توفير دولار للسوق لشراء المواد الأساسية".
ويتابع الباحث الاقتصادي: "ترك هذه المهمة للسوق سيدفع الطلب على الدولار للأعلى وأمام عدم توفره سيرتفع سعر الصرف بطبيعية الحال"، مشيرا: "هذه الأسباب وغيرها رسمت المشهد القاتم لليرة على مدار الأعوام الماضية ولا تزال".
"المركزي خارج اللعبة"
وأصبح الاقتصاد السوري، الذي أصابه الشلل منذ أكثر من عقد، معتمدا على الدولار بشكل متزايد إذ يحاول السكان حماية أنفسهم من انخفاض قيمة العملة والتضخم.
وأدى انهيار الليرة خلال الفترات الماضية إلى ارتفاع أسعار السلع، وفاقم المصاعب بينما يواجه السوريون صعوبة في شراء الطعام والكهرباء وأساسيات أخرى، لاسيما في ظل انعدام المحروقات وتضعضع الدعم المخصص لها، والذي تناقص بالتدريج خلال العامين الماضيين.
ويُستخدم سعر الصرف الرسمي (3015 ليرة للدولار) في التعاملات الرسمية وفي المبادلات المحدودة نسبيا التي تنفذها حكومة النظام السوري، بينما تحسب جميع الأعمال الأخرى بـ"دولار السوق السوداء".
في غضون ذلك، يشير الدكتور في الاقتصاد عبد المنعم الحلبي، إلى أنه "لا نستطيع تسمية ما يجري لليرة السورية بالانهيار"، لكنه يقول: "هو انحدار شديد نعم".
ومن جانب آخر، يضيف الحلبي أنه "لا يجب أن ننسى أن الانحدار يلبي مطالب الكثير من الصناعيين السوريين، إضافة إلى المكاسب التي يحققها النظام من زيادة قيمة ممتلكاته الدولارية".
ويرى أن "الانحدار الحالي مسيطر عليه بالتأكيد، وربما ذاهب باتجاه سعر توازني هو العشرة آلاف ليرة مقابل الدولار الأميركي الواحد".
في المقابل "يؤكد أن التدهور الشديد لليرة أن الجهاز المصرفي السوري المتمثل بالبنك المركزي لا يمتلك أي أدوات للكبح، وهو خارج اللعبة"، حسب الصحفي الاستقصائي السوري، مختار الإبراهيم.
ويقول الإبراهيم لموقع "الحرة": "على العكس المصرف المركزي بات مضاربا وليس متحكما مثل باقي المضاربين في السوق، منذ منع التعامل بالدولار. بات هناك عدة لاعبين على الأرض وخصوصا الصيرفة في السوق السوداء".
ويضيف الصحفي المهتم بالاقتصاد من جانب آخر لكن في ذات السياق بأن "لبنان الذي يعرف بالحديقة الخلفية لرأس المال السوري فتح منصة لبيع الدولار الواحد بـ38 ألف ليرة لبنانية".
ويتابع: "هذه الخطوة ولدّت شعور لدى اللبنانيين بأن المركزي في البلاد قادر على إيجاد حلول ما أسفر عن ارتياح في الشارع، بينما المركزي السوري لا يمتلك هذه الأدوات أو القطع الأجنبي لاتخاذ ذلك".
وأعلن مصرف لبنان المركزي، الثلاثاء، عن خفض حاد لقيمة الليرة إلى 38 ألف مقابل الدولار على منصته للصرافة (صيرفة)، في محاولة لتخفيف انخفاض العملة إلى مستويات قياسية في السوق الموازية.
وقال المصرف في بيان له: "يشتري مصرف لبنان كل الليرات اللبنانية ويبيع الدولار على سعر صيرفة (عند) 38 ألف ليرة للدولار، ويمكن للأفراد والمؤسسات ودون حدود بالأرقام أن يتقدموا إلى جميع المصارف اللبنانية لتمرير هذه العمليات، وذلك حتى إشعار آخر".
وأضاف أن تخفيض قيمة الليرة، خلال فترة الأعياد، يرجع إلى "عمليات مضاربة وتهريب الدولار خارج الحدود"، وهو سبب اعتبره الصحفي السوري الإبراهيم أنه يفتح "إشارات استفهام"، وأن "خارج الحدود تعطي إشارة إلى سوريا. هناك ثقب أسود في السوق السورية يمتص كل الدولار وقد يمهد لحدث كبير ما سننتظره"، وفق تعبيره.
ما حدود التدهور؟
ونادرا ما تكشف حكومة النظام السوري الأسباب الحقيقية للأزمات الاقتصادية الحاصلة في البلاد ومن بينها أزمة العملة، فيما تحمّل كثيرا وباستمرار الدول الغربية والولايات المتحدة مسؤولية ما يحصل، وأن الأمر مرتبط بالعقوبات.
لكن خبراء الاقتصاد يرون القصة بواقع مختلف، يتعلق بشكل أساسي ببنية النظام السوري، والسياسات التي يسير من خلالها لإدارة البلاد سياسيا واقتصاديا، فضلا عن مفاصل الاقتصاد السوري التي لم يبق منها أي شيء على حاله.
و"مادامت القبضة الأمنية هي من تحكم البيئة الاقتصادية سيبقى هناك حدود برأيي لأي انحدار في الليرة السورية"، وفق الباحث الاقتصادي مناف قومان.
ويقول قومان: "هذا ما يميز هبوط العملة في دولة تعتمد على مقاربة أمنية وبوليسيبة في إدارة الموارد والاقتصاد عموما عن إدارة اخرى".
"هذا الأمر ما سيحدد السعر المدقع القادم، بمعنى إذا أخذ النظام منحة ومساعدة من حلفائه وتوفر الدولار في السوق قد يستقر عند هذه الحدود لفترة من الزمن". ويضيف الباحث: "أما عن تحديد السعر القادم فلا يعنيني إذا عُرف أن قيمة هذه الورقة النقدية هبطت أمام الدولار بنسبة 99 بالمئة".
ولا يعتقد الدكتور في الاقتصاد الحلبي أن "الأمر (التدهور) سيأخذ أبعادا أخرى غير معيشية، بشرط وجود سياسات ترميمية متعلقة بزيادة الدعم السلعي وزيادة الرواتب والتعويضات، مع زيادة المساعدات الأممية والعربية".
ويرى الصحفي الاستقصائي، مختار الإبراهيم أن "التدهور سيتسمر ما لم يتم اتخاذ خطوات جذرية كبيرة"، منها "ضخ كميات كبيرة من الدولار في المركزي من قبل الدول الداعمة، أو إعادة مشاريع تعطي طمأنة بأن الليرة السورية ستنتعش من جديد".
ورغم ذلك، يضيف الإبراهيم أن "الضخ مستبعد من دول غير مؤهلة لهذا الأمر، مثل إيران أو روسيا، وكذلك إعادة المشاريع، في ظل الوضع السياسي والأمني والعقوبات، وما نسمعه مؤخرا عن الاستراتيجية الأميركية، لمكافحة وتفكيك شبكات الكبتاغون والمخدرات".
من جانبه يعتقد الباحث مناف قومان أن "أي ضغط مالي على النظام السوري ينقل العبء نحو القطاع الخاص، وبالتالي قد نرى الفترة المقبلة خصخصة لقطاعات اقتصادية أكثر كما لاحظنا مع المحروقات".
ويضيف أن "سلبية هذا الخيار يأتي من سوء الأوضاع المعيشية للسكان وشلل في كثير من جوانب الاقتصاد، ومن ثم الخصخصة ستخلق دوائر لرجال أعمال للانتفاع وتصيد الأرباح على حساب المواطن دائما".
Yorumlar
Yorum Gönder